الخوف
كان الأستاذ شوڭو كونيبا يؤكد دائما أن هدف الفنون الحربية هو السيطرة على المشاعر ، أما التقنية فهي أداة للتوصل إلى هذا الهدف .
بالفعل ، يمكن لمشاعرنا أن تؤدي بنا إلى التهلكة إذا كانت هي التي تتحكم في ردود أفعالنا . الخوف ، الغضب و الحقد لم يكونوا يوما ما مصدر ثقة . الغضب و الحقد يمكن أن يؤديا بنا إلى القيام بأعمال مأسوف عنها ، أما الخوف فيحبِسنا في تكزز أو تجميد جسدي و ذهني نودّ التخلص منه .
قبل أن نتسائل هل يمكن القضاء على الخوف ، من المستحسن قبل ذلك أن نتعرف عليه .
التعريف بالخوفالمُنجد الفرنسي هاشيط يزوّدنا بالمعلومات التالية :
"
الخوف هو اضطراب شعوري مُنبعت من فكرة أن شيئ مكروه أو مصيبة أو خطر ممكن حدوثه في القريب العاجل.
ردود فعل الخوف هي جد معروفة : تسريع خفقان القلب ، ارتفاع الضغط الدموي ، تضييق الأوعية الدموية ، العَرَق ، انتصاب الشعر ، الزيادة في إفراز الأدرينالين ، استرخاء المَصَرّات ( عضلات التبول و التغوّط) ، انقطاع إفراز الريق ، إلى آخره ."
في الواقع ، الموضوع مُتناوَل بطُرُق مختلفة حسب الكَتّاب لأنه لا أحد يستوعبه بالكامل . كذلك نجد المنجد غامضا في تعريفه بحيث يوجهنا نحو الفيزيولوجيا بينما يستعمل كلمة "فكرة " و "اضطراب شعوري" ، وهذه الكلمات تحيلنا إلى العامل النفسي بدل الفيزيولوجي . زيادة على ذلك ، لا يقدم لنا المنجد أي إشارة عن طبيعة هذا الإضطراب الشعوري ولا يشرح لنا العلاقة بين الدوائر النفسية و الجسدية .
المصادر العلمية والفلسفية التي تقترح تعريفا حقيقيا للخوف هي جد نادرة ، إن لم أقل منعدمة .
مع ذلك ، هناك فرضية واضحة : الخوف هو ردّ فعل تكْيِيفي متبوع بنشاط نفسي كابِت (مانِع) . المفكر الهندي كْريشْنامورتي هو الوحيد الذي تكلم عن عملية مشابهة إذ عبّر عن رد الفعل الفيزيولوجي بكلمة " الخوف الحيواني ".
لِندَعِّم فرضيتنا :إفراز الأدرينالين له مفعول فوري : إنه يمَكّن من زيادة الڭليكوز (سكَّر) الجاري في الدم . إضافة إلى ردود الفعل الفيزيولوجية المذكورة أعلاه ، هذه الخاصية تجعل الشخص الموجود تحت ضغط الخوف في حالة مناسبة لتنفيذ مجهود قوي ( بدني و ذهني).
مع الأسف ، هذا التجاوب المُكَيِّف من الذات لا يدوم طويلا ، بل يدوم الوقت الكافي فقط لكي يقدم النشاط النفسي تجاوبه الخاص به مع الحدث، هذا التجاوب النفسي هو مُوجَّه من طرف أعماق وَعْيِنا (أو لا وعينا كذلك) . نلاحظ بذلك أن التجاوب مع الحدث يأتينا تقريبا دائما من الداخل وليس من ملاحظة سبب الخوف.
مثال :
أنا أسوق سيارتي . فجأة ، أمامي، سيارات أخرى تتصادم مع بعضها البعض و تستقر في أماكن متفرقة في مساري . من المستحيل القيام بالفرملة . إذن أزيد في السرعة ، أُحرّك المِقوَد إلى عدّة اتجهات ، أتغلّب على الإنزلاق و أُعيد السيارة إلى المسار.
لا شك أن هذه هي المرحلة الفيزيولوجية التَّكييفِية . لم تتبلور لحد الآن أية فكرة لأن دماغي منشغل كليا مع العملية. هذه الأخيرة إنتهت عندما أُوَقِّف سيارتي بعد 100 متر بعيدا عن بداية الحدث . ولكنني خلال العملية لم أر شيئا بوضوح ، كانت الأفكار تتزاحم ، مبعثَرة ، على شكل صُوَر و كلمات ووَمَضات : " حادثة ، موت ،إمرأة ، مصابون ، أطفال ، دم ، موت ، مُعانات ، ركام حديد ، موت ، موت ، موت ..." كنتُ مهووسا بهذه الفكرة الأخيرة . وفجأة أحسسْتُ برِجْلَي تخوناني، أنا منهار، متجمّد ، غير قادر على أدنى ردّ فعل ! نعم ، لقد غمرني الإحساس بالخوف و معه توابعه المانِعة .
لا يشعر الإنسان بهاتين المرحلتين من الخوف كل واحدة على حدة ، لكن هذا الأمر لا ينقص شيئا من وجاهة هذا الطّرح . يكفي فقط أن يقع سبب الخوف بصفة تدريجية وليس مفاجِئة لكي يحصل التعاطي النفسي قبل التعاطي الفيزيولوجي ويُعطِّل الأول الثاني في تأثيره الطبيعي . أما في حالة القلق ، يكون موضوع الخوف داخليا و لا يوجد السبب أصلا، فالتعاطي معه يكون نفسيا فقط .
باختصار : يظهر أن جانبا من الخوف يتّصف بالإيجابية لكونه يجعلنا في حالة يسهل معها التعاطي مع الحدث بصفة فعالة . بشرط أن تُستَعمَل هذه الطاقة بطريقة صحيحة. أما الجانب النفسي ، فهو في الغالب وخيم العواقب ، ماعدا عندما يكون أحسن تعاطي مع الواقعة هو أن لا نقوم بشيء .
الأمر واضح بالنسبة لما يجب القيام به : من جهة ، التدريب من أجل تنمية حركات و تصرّفات و ردود فعل تلقائية تُقَدِّم الجواب المناسب لحالة ما ، و تجعلنا نتفادى ردود الفعل الخاطئة أو الخطيرة . من جهة ثانية ، البحث عن طريقة أو طرائق خاصة بتفادي ظهور و تثبيت التعاطي النفسي الذي يكون دائما مُضِرّا ، وتطبيقها .
في هذا المستوى، يضحى من الضّروري التحليل الدقيق لطبيعة الخوف النفسي . إذا رجعنا إلى مثال الحادثة ، نرى أن الخوف يقع عندما ينتهي الحدث ، عندما تغمرنا الأفكار . أييُّ واحد منا يمكن أن يلاحظ ما يلي : عندما نكون منهمكين كليا في نشاط ما ، لا يتجلى أي خوف . لكن عندما يتخلّى الذهن عن عملية معقّدة تحتاج إلى الإنتباه ، فإنه يعود إلى ثرثرته الامتناهية وتكون هذه الترترة مُقلِقة في حالة التوثّر. في حالة حادثة ، تُذَكِّر هذه الثرثرة بالموت ، وفي حالة جلوس على أريكة تذكّر بالطرد من العمل أو الرسوب في امتحان، في حالة اعتداء تذكر بسرقة المحفظة أو تلقي ضربة في البطن بسكين أو وجود غير مناسب في ذلك المكان ...
التغلُّب على الخوف الفكر هو السبب في مخاوفنا , لماذا لا يستطيع الفكر الإجابة بفعالية عند طلب مُلِحّ ؟ السبب هو أن أفكارنا تنبثق من ركيزة و هي الذاكرة ( لا بد من عناصر لبناية فكرة), لكن الذاكرة تهمّ الماضي حتى ولو كان قريبا . أما الفكرة ، التي هي أساسا مبنية على عناصر من الماضي ، لا يمكن أن تشكل دعامة جيدة للتجاوب مع الحدث الذي يدور في الحاضر .
للتجاوب بفعالية ، نحن نحتاج إلى تصويب طاقاتنا الفكرية نحو الهدف الوحيد ، وهو التجاوب مع الحدث. عندما يظهر التفكير الغوغائي ، ينتهي التجاوب. الطلبة يعرفون ذلك جيدا : عندما يَفِرّ الذهن ، ينتهي العمل . كل واحد يستطيع ملاحظة الواقع المرّ التالي : الذهن لا يمكنه متابعة أكثر من عملية واحدة ( ماعدا ردود الفعل الاشعورية) . الذين يظنون أنهم يحققون عدة عمليات في نفس الوقت ، هم في الواقع يمرّون عليها مَرّ الكرام أو يُفشلونها ، أو يلجأون لردود الفعل ألاشعورية كما في سياقة السيارة.
بعبارة أخرى ، جاهزية الذهن مطلوبة من أجل الملاحظة . إذا طرأَتْ فكرة ، أو خوف أو شيئ آخر ، تتشوّه الملاحظة و بذلك يصبح التجاوب ، مع حدث ما ، حتما غير مناسب.
أصبحنا نقترب من الحل : لو استطعنا التحكم في ذهننا واستطعنا تصويبه نحو العملية التي نريد منه تحقيقها ، لو استطعنا تجنب تكاثر الأفكار المُشَوِّشة ، فسنكون قد حققنا هدفنا .
نعم ، ولكن كيف تحقيق ذلك ؟
أولا ، مِن الواضح أنه علينا القيام بالتدريب . التطوّر أو التحسّن التقني يؤجل وقت ظهور الخوف . المرأة ،مثلا، التي كانت يجمدها الخوف عند تهديدات طفل من سن 12 سنة ، لن تبالي بذلك في نفس الظروف بعد أن تتمرّس بعض السنوات على فن حربي , مثال آخر : المقابلة من أجل التوظيف ، إن تَمَّ تهييئها بجدّية ، ستمرّ في جو سليم . في جميع الحالات ، لا يظهر الخوف إلا عندما نحسّ بفقدان السيطرة على الحدث ، عندما يطغى الشك والإرتياب. التدريب هو أفضل وسيلة لتوسيع تضييق الخناق الذي يطَوِّقنا به هذا الحاجز.
ثانيا ، لِنهاجم مباشرة الخوف النفسي . هناك عدّة سُبل للتجريب. نستطيع مثلا :
- زيادة على التدريب ، محاولة تأجيل ظهور هذا الخوف النفسي (طرائق الفرملة)
- إشغال فكرنا بأفكار تُأجّل حدوثه ( طرائق مُسَكِّنة)
- تعويد فكرنا بطريقة تجعله يُقرّر ماذا يجب عليه القيام به ومتى القيام به (الحِكمة)
طرائق الفرملة سنحتاج إلى استعمال التنفس العميق. هذا الأخير يفرض علينا الإنتباه وبذلك لا يسمح بظهور الأفكار المُشَوِّشة. إنه ضروري كلما كانت الأحداث لا تترك لنا وقتا كبيرا ، مثلا قبل الإمتحان ، قبل مقابلة لطلب من أجل العمل ، في تدخّل شفوي أمام الجمهور، في مناسبة تباري ، في حالة الرهبة أمام الجمهور(التمثيل المسرحي مثلا) .
هذه الطريقة لها محدوديتها لأنه سرعان ما يمرّ التنفس تحت تحكم النظام ألاإرادي للجسم ، لكن يمكننا تحسينه بتدقيق مضمون الطريقة : محاولة التحسُّس بمسار الهواء، التحسس بحركات الحجاب الحاجز (diaphragme) وحركات القفص الصدري ، تبادل الأوكسجين و الأوكسيد الكربوني بداخل خلايا الرئة، إلى آخره . من مساوئ ذلك أن ذهننا غير جاهز للملاحظة ولكن على الأقل نتجنب عواقب الخوف .
يمكننا كذلك الإرتماء كليا في قلب الحدث. إذا استطاع هذا الأخير إشغالَنا كليّا ، فلا يمكن أن يحدث الخوف . ولكن ، في هذه الحالة أيضا ستنقصنا الملاحظة ، ثم هناك احتمال ارتكاب خطأ و الخوف يكون مؤجَّلا فقط .
طرائق مُسَكِّنةيتعلق الأمر بإشغال الفكر بأفكار بناءة و مفيدة للتجاوب مع الحدث و التي تمنعه مَن الهَذَيان . مِن بين هذه الطرائق نجد عِلم مقاومة الألم وفن التواصل ألامحدود . مثلان ، الرياضي المُتزحلق على الثلج ، عندما يتلو على نفسه حركاته المناسبة خلال مسار هبوطه ، فإنه بذلك يحسّن فعاليته ويفرِغ عن ذهنه إمكانية ظهور الخوف. لكنه مع ذلك يفقد معالم حدود مقدوراته التقنية و يكمنه بالتالي التعرض لاحتمالات غير محسوبة العواقب . حوادث خطيرة تنجم عن هذا النوع من الطرائق . زد على ذلك أن هذه الطرائق تكون مُبرمَجة لحالات معروفة و خاصة و لا تصلح بالتالي لحالات مُفاجِئة مثل التعرض للاعتداء .
الحِكمةمن طبيعة الحال ، هذا هو الحل الأسمى ولكنه صعب المنال !
بما أن أي تشنج بدني يقابله تشنج نفسي ، فجميع طرائق الاسترخاء مفيدة ، منها مثلا طريقة التأمل البوذية ( زَنْ) التي تهدف إلى التحكّم في الذهن . لكنها مُثْقَلَة بعدة طقوس و إضافات تجعلها بعيدة عن هدفها الأصلي .
في نظري ، المفكر جيدّو كريشْنامورْتي هو الوحيد الذي يقدم لنا عناصر تَصَوّرية لولوج الحكمة ، لكنه لا يقدم منهجا ، بل يوضّح أنه لا يمكن وجود منهج . العمل كله يقع على عاتق الشخص وذلك أمر عادل : لن يظفر بالحكمة إلا من يستحقها . لا أحد يمكنه مساعدتنا . الجميع ينطلق من نفس النقطة و يتمتع بنفس المكتسبات .
المرحلة الأولى ، وهي الأصعب ، تعتمد على ملاحظة اشتغالنا المحض من الداخل . الوعي بجميع تكيّفاتنا وانضباطاتنا : الثقافية ، الدينية، المهنية ، العائلية ، إلى آخره . ملاحظتُها دون الحكم عليها و فهم ملابساتها . استيعاب كيف تتكون أفكارنا و استيعاب تأثير انضباطاتنا على أفكارنا . الكشف عن مصدر رغباتنا ، أفراحنا ، آلامنا ، مخاوفنا ، مشاعرنا ، كل هذا الخلْط الذي يُثْقِل وَعْيَنا ، ما يمكن البوح به و ما لا يمكن البوح به ، اضطراباتنا ، صراعاتنا ، إلى آخره . باختصار ، القيام بمراجعة داخلية بدون مجاملة ، النظر إلى أنفسنا كما نحن : حقيرين ، متمسكنين ، منافقين ، متكبّرين ، متسلّطين ، حقودين ، شهوانيين ، بخلاء ، متخادلين ، عدوانيين ، ضعفاء الشخصية ، إلى آخره .
ملاحظة ما بحولنا هي في حدّ ذاتها عملية صعبة لأن انضباطاتنا تتصرف كَمَرايا تشْويهِية . إننا لا ننظر إلى الأشياء بنفس الطريقة لو كنا امريكيين أو أوروبيين أو مسيحيين أو طاوٍيين أو رجال أو نساء . لكن المراجعة الذاتية عملية أعقد لأننا ، فَوْرِياً ، نميل إلى تبرير هفواتنا ، إلى الإعجاب بأنفسنا أو ، بالعكس عند البعض ، التشاؤم من كل شيئ بصفة مُقْرِفَة .
الهدف الأخير : ملاحظتنا أو مراقبتنا على حالتنا الراهنة ، كما نحن ، دون الحكم على أنفسنا ، النظر إلى أنفسنا في أقصى تعرِيَتنا من أجل التعرف بنفسنا ( وليس حسب المفكر كريشنامورتي أو غيره ) على أنفسنا و كيف نشتغل . هذا هو هدف التأمل ، ليس التأمل الذي نقوم به في وضعية خاصة ، بل التأمل في كل لحظة . التعرف على أنفسنا عندما لا يضايقنا أي شيء ، أمر غير كاف , إننا تنعرّف أكثر عن اضطراباتنا و التباسنا و صراعاتنا الداخلية ، و تناقضاتنا من خلال مراقبة حياتنا اليومية. هذه النظرة الشمولية على أنفسنا ، عندما تتحقق ، تُحْدِث حَتْما صدمة روحية هائلة . حسب الثقافات ، هذه اللحظة تُسمّى صَحْوَة أو إلهام . لا تهم التسميات ، المهم هو بَدَهِيَة ما نلاحظه لأن الملاحظة هي الفهم .
ثم ماذا بعد ذالك ؟
لا شيئ !
يقول لنا كريشنامورتي " إذا كنتم تمشون نحو الجنوب منذ مدة طويلة و ، فجأة ، اكتشفتم بأن هناك غلط و بأنكم تمشون نحو الشمال ، فماذا تفعلون ؟ طبعا إنكم تتوقّفون ! " ذلك يحصل أيضا مع الفكر. عندما يكتشف الفكر عدم تماسكه ، حماقته ، أغلاطه ، ماذا يستطيع أن يفعل ؟ إنه يتوقّف عن الثرثرة و يبقى فارغا . بعبارة أخرى ، يصبح في المتناول ، جاهزا و فعّالا ،لأن فراغه من الأفكار المُشَوِّشَة يستبعد أي احتمال لحدوث الخوف.
لا تقتصر الفائدة على القضاء على المخاوف فحسْب ، بل نربح الحِكمة كذلك .
ترجَمْتُه عن موقع :
http://www.goshinbudokai.fr/peur.html