الثقة في النفس
" تقدير الذات ، حب الذات ، معرفة الذات ، إثبات الذات ، تحقيق الذات ، الثقة في الذات " . هذه التعابير أو ما شابهها ، مقرونة مع بعضها البعض بصفة عشوائية ، تملئ الكتُب و المجلات و مواقع الأنتيرنيت أو البرامج المخصصة لعِلم النفس وللعلاقات المهنية أو الخاصة و للتأطير الرياضي و للتطور الشخصي و للرياضة و للدفاع عن النفس .
إنها تعابير غير محدَّدة ، تحُلّ محَلّ بعضها ، كلها مرتبطة مع بعضها دون شرح هذا الإرتباط ،و مُزيَّنة بنصائح صبيانية، غير منطقية ، تعزيمية : إنها الترسانة الكلاسيكية للمُشعْوِد النفساني.
غير أنها تُدغدِغ فِكْر الممارس للفن الحربي المتطلِّع للتمكُّن من فنه, لذلك وَجَب تحديد المفاهيم و استيعاب مخارجها لكي لا نسقط في فخّ أصحاب الخطابات الرَّنانة .
البودو ، أو فن الحرب الياباني (budo) ، كما هو الشأن بالنسبة للبوجوتزو (bujutsu) الذي سبقه ، هدفه هو التغلّب على العدو . الساموراي يَعْلَم أنّ العدوّ الأساسي هو بداخله . ( أنتهت خدمة السّامورايْ في عهد المَيْجي (1868-1912) لكن المفهوم بقي عالقا عند عدد كبير من اليابانيين ) . هذا العدو بداخل الإنسان هو الأنا ( الأنانية ، الغرورية ، الإعتداد بالنفس ) . لكي يتغلّب على خصومه ، يجب على السّامُورايْ أن يقطع رأس عدوّه الداخلي. . التجربة الطويلة لآلاف السنين لهؤلاء المحاربين النّبلاء تشير إلى الأنا بأنه هو العقبة الأولى أمام اكتساب ذهن فعّال ، نّقِيّ و هادئ ،و هي صفات تمثل مفتاح التّحكّم الحربي.
مقابل ذلك ، هناك اقتراحات عديدة لِحُكَماء النفس في العصر الحديث (احترام الذات ، حبّ الذات ، أن تكون أنت ، الوثوق في الذات ، إثبات الذات ، تحقيق الذات) توحي بتعظيم و تضخيم و الثّناء على الأنا . الممارس الحقيقي لن ينخرط في هذه الأمور لأن هدفه الأسمى (مثل الساموراي) هو منع تشويشات أناه .
بعد أن بيّنا هذا و شطّبنا على النصائح المخالفة للبودو ، يتبقّى لنا : " الثقة في الذات " و "معرفة الذات بالذات " غير أن أصحاب النصائح أعلاه لا يفرّقون بين "الوثوق في النفس" (être sûr de soi) و "التقة بالنفس" (avoir confiance en soi) وسنحاول التمييز بينهما .[ ربما لا يعني هذا الفرق شيئا باللغة العربية ، ولكننا نقوم هنا بالترجمة في احترام تام لآراء الكاتب ] .
الوثوق في النفس être sûr de soi ، تصرّف يُرْهِبإنه تصرف غالبية رجال السياسة و السّاسة و الرّؤساء الصغار و غير ذلك مِن مَن يفرض وجهة نظره على الآخرين و لا يقبل بغيرها . سلاحهم هو الخطابات الطويلة و المُمِلّة التي تنطوي على تزوير الحقائق و قلبها و تقديمها في قالب من الحقيقة الدّامغة التي تستحوذ على ضُعفاء العقول و تستميلهم . العديد من الناس تستهويهم هذه الطريقة و يتَّبِعونها من أجل الرُّقِي اجتماعيا .
نفس الشيء يقع في سياق العنف الجسدي . بعض الأشخاص هم واثقون في قوّتهم البدنية ، في تقنيتهم ، في قدْرتهم على القضاء على التهديد ، في قدرتهم على السيطرة و على التحطيم ، أو يحاولون الظهور بذلك باستعراض عضلاتهم أو عدد درجات حزامهم . و آخرون يُسحِرهم هذا المنظر و يحاولون اكتساب هذا النوع من الوثوق بالذات .
لذلك تجد عددا مِن مَن أعلنوا أنفُسَهم خبراء في ميادين عديدة من الرياضات الحربية و الدفاع عن النفس ، يختارون تعليم ردود الفعل المُبْهِرَة . بالنسبة لهم ، الملاحظة والتفكير يأخذان وقتا طويلا. الدماغ مُدرَّب على إعطاء جواب واحد يُطْلِق فَوْرِيا الأوتوماتزمات المُسَجَّلة مُسْبقا.
هذه الطرائق بجميع أنواعها ( عسكرية ، بوليسية ، للجمهور العام ) هي مُخصَّصة لاستيعابها في وقت وجيز، لكنها لا تُنْتِج سوى أجوبة تقنية عنيفة ضد الإعتداء و تترك جانبا العمل الضروري على الذات في المدى الطويل . ليس هناك مَحَلّ لِمِيزات الذّهن المصيرية خلال المنازلة . البحث عن فعّالية فَوْرِية مفْتَرَضة ، بدون التأني المؤقت الذي تفرضه الملاحظة و التحليل ، بدون تفكير فلسفي أو أخلاقي مُسْبَق ، لن يؤدّي إلا للدّمار، عكس التناسق الكوني المّراد من طرف المقاتلين الحقيقيين .
"الثقة في النفس" (la confiance en soi): إدراك للواقع أم إيحاء ذاتي ؟لِنتَفحَّص العبارة " الثقة في النفس" . الثقة : شعور بالأمان ، بالاطمئنان لدا شخص يثق كلّيا بشخص آخر أو بشيء ما . الثقة في الآخر تتحقّق بفضل الخصال أو المهارات التي نعترف له بها . لكن هناك مشكلة : الخصلة المزعومة ليست ضمانة بوجودها . في اللغة الفرنسية القديمة كان نصف الكلمة يدلّ على الإيمان (fiance)، يجب التوفر في بعض الأحيان على الإيمان لكي تحصل الثقة . لِنتذكَر وزير المالية في البرلمان و هو يقول سنة 2012 " أقول لكم ، العينين في العينين ، ليس لي حساب بنكي بسويسرا " ، حتى أن رئيس الدولة و وزير آخر إقتنعا بتصريحه و قرَّرا الدفاع عنه . لكن نعرف النتيجة : لقد كان للوزير بالفعل حساب بنكي في سويسرا.
فِعْلا ، يمكن أن نُخادَع ، لكن ، هل يمكن أن نخادِع نفسنا ؟ كلمة "نفسنا" ، أو الذات ، هي أوّلا كيان مادّي ، جسد بمواصفات خاصّة ، بقدُرات و عوائق ، بقدرة وبضُعف ، يمكننا التّعرّف عليها لكن ليس دائما بطريقة صحيحة . مَن مِنّا لم يتفاجئ يوما بالفشل في فِعْل كان يظن التمكّن منه أو العكس بالعكس ؟ يتعلق الأمر أحيانا بالحظ أو سوء الحظ ، وفي الواقع سبب ذلك هو تخمين خاطئ لقدراتنا . الكيان الذي يعرف و يدير الجسد هو الذهن ، غير أنه بما أن الجسد كيان جدّ معقّد ، فالذهن بدوره يَعُجُّ بمضامين لم يتناولها العِلم بعْدُ بالتفصيل . ليس لنا اليقين التام في كيفية اشتغاله ، بل لدينا بعض النظريات التي أصبحت المرجع الثابت لشرح التصرفات الغير الطبيعية أو العنيفة .
من الواضح أن الذهن لا يقودنا دائما بطريقة مثالية لأنه دوما مُعرْقَل بظواهِر نسبيا لا شعورية ، غير منطقية ولا نتحكّم فيها و التي تُشَوِّه أو تحجب الواقع الذي هو في متناول حواسّنا وذكائنا .
لو افترضنا أن الثقة الحقيقية – مقابل الثقة النفسية المحظة التي ليست إلا نوعا من الإيحاء الذاتي (autosuggestion) – تنبني على معرفة حقيقية و ملاحظة خالية من التشويش ، فإن المُعتقدات و الظّنون و التخيّلات التي تملأ الوعي يمكنها أن تُغذّي خُرافات و تُؤدّي إلى انهزامات مؤلمة .
أمّا التذكير الدّاخلي بعبارات " أنا أستطيع أن أفعل كذا" ، " أنا أثق في نفسي" ، فهذا ضرب من طُرَّهات علماء النفس المُهَرّجين .
لوضع الثقة حقيقيا في النفس ، يجب التعرُّف على النفس ، التعرّف على كل الإنضباطات السلوكية و النظريات المُخادعة و الأوهام ن و المشاعر والأحاسيس التي تسكن وَعْيَنا و يتكوّن منها الأنا ، أي الكِيان الذي يُدير التصرّفات ، ثُمّ فَهْم كيف تُأثِّر علينا .
هذا هو دور التأمل (méditation) الذي يتفحّص الذهن وكذلك دور اختبارات مُعيَّنة لتقييم قدراتنا و حدودها على الصعيديْن الجسدي و الذهني لمعرفة مدى قدرتنا على تجاوز العقبات ، شريطة أن نمارس ذلك بدون مجاملة أنفسنا .
التأمل بوضعية السيزا هي مقاربة أولية ، لكنها غير كافية للتعرف على الذات بصفة دقيقة . لِفهم ، مَثَلا ، كيف تَحُلّ المشاعر في الذهن و تنعكس على الجسم ، يجب أن يقع التأمل حينما نكون فعلا مُرتَبكين بالخوف ، بالغضب ، بالفرح ، بالحقد ، إلى آخره.
إن فترات التغييرات النفسية الكبرى التي يمكن أن يمرّ منها كل شخص ، هي الباب المفتوح على المعرفة الذاتية . التأمل الفعال يلتَسِق بالواقع الراهن . إنها النهج الضروري لمعرفة الذات و التطور نحو الحِكمة .
أما الإختبارات الأخرى ، تِكْرارية ومتنوّعة ،التي لابد للشخص أن يفرضها على نفسه ،فوَجاهَتُها تعتمد على مدى واقعيتها . في ميدان الفن الحربي ، إن التنويع في أشكال العمل هي التي تسمح بالتمكُّن من الأوجه التقنية و الإستراتيجية و النفسية لحالة الإعتداء التي لا يمكن عرضها في صالة التدريب بواقعيتها الفِعْلية .
تبدو إذن عبارة " الثقة في النفس " غامضة شيئا ما . بالفِعْل ، ما هي العلاقة بين الثقة النفسية المحضة المُنْبثِقة من الإيحاء الذاّتي و الثقة المَبْنية على الإدراك الصحيح للواقع ؟
هذه الأخيرة يجب تقديرها تحت نوعين مختلفين : ثقة مُحدَّدة تطابق الوعي بالقدرة على تحقيق عملية محدَّدة بشكل صحيح ، وثقة عامة مرتبطة بالخصال و المهارات العَرْضية (transversales) ، النّافعة في عدة أنشطة : المهارات الذهنية ، المعارِف العامة و النظرية ، خِصْلة الملاحظة ، التوازن العاطفي ، القدرات البدنية ، المهارات القابلة للتّكَيُّف ، الإرادة ، المواظبة ، إلى آخره . كل هاته الميزات تسمح بالتّكَيُّف مع الحالات الجديدة الطارئة والمُعقَّدة ، و التّغَلُّب على صعوباتها .
الثقة المحدَّدة تنبني على مُعطيات موضوعية : المهارات المطلوبة للتمكُّن من عميلة أو اختبار معيَّن ، مقارَنَة مع المهارات التي نمتَلِك . يمكن لهذه الثقة أن تكون من مستوى عال لو لم يُشَوِّش أي شيء على تقدير تلك المعطيات الموضوعية.
الثقة العامة تنبني على الإحتمال التالي : هل القدرات العَرْضية و الخصال الأساسية و الترتيبات الذهنية التي نمتَلِك كافية لاستيعاب مَكوِّنات مشكل طارئ ثُم إيجاد الحل المناسب ؟
هذا النوع من الثقة ينطوي حَتْما على قدر كبير من الإرتياب الذي يمنعها من بلوغ أو الإقتراب من مستوى الثقة المُحدَّدة .
هذيْن النّوعَيْن من الثقة يحتاجان إلى مُعطَيات و مناهج مُغايِرة . الثقة المُحدَّدة لا يمكنها أن تَحُلَّ محلّ الثقة العامة كما يدّعي بعض أشباه علماء النفس.
لكي لا نعيش في الوهم – وهذا أمر ضروري في فنون الحرب – يجب على الثقة في النفس أن ترتكز على الواقع فقط وأن تكون تَناسُبية مع قُدراتنا العامة والخاصة . إن هي تَجَلَّت بطريقة أخرى ، فمعنى ذلك أن الأنا هو مَن يتحكَّم ، وهي الحالة الأكثر انتشارا لدى الأفراد ،بالرّغم مِن أن القليل مَن يُدرِك ذلك .
الذَّوات التي لها أنا مُضَخَّم ، مُتكبّر أو احتقاري تُلاحَظ بسهولة ويتِمُّ شجْبُها . الأنا هو مرض خاص بهم . غير أنه بالإمكان اعتبار أي شخص بكونه متكبّر ، متواضع ، هامِشي ، نَزَوي ، مُتألِّق ، رديء ، مُتسلّط ، خَضوع ، حيوي أو مُرْتخي ، فهذا لا يمنع من كون أناه يتحكم فيه .
الأنا كلمة تعبّر عن التَّمَثُّل الذي لدينا عن ذاتنا و علاقته التّناغُمية مع الكائنات أو الأشياء . كثيرا ما يُعْتَبَر الأنا أساس الشخصية ، لكنه في النهاية مجرّد مُعرْقِل للتطوّر الشخصي . بذلك ، هذه الصورة لدا الشخص عن ذاته ما هي إلا تصور وهمي للواقع بغَرْبَلة هذا الأخير تحت منظور التّنميطات و المشاعر و الأحاسيس و هُفُوات الإدراك ، إذن تلك الصورة ليست وفيّة للواقع .
عدا بعض الاستثناءات ، الجميع يُعاني من "أنا" كاسح و مُستبِدّ ، يستحق القضاء عليه . لكن ، بما أن "الأنا" يُعْتَبَر جزءا من الذات ، فقليل مَنْ هُم مستعدّون لإقتطاع جزء من ذاتهم . إنه غلط كارثي ! لأن "الأنا" مجرّد دخيل غير مرغوب فيه ، يُعَشِّش بداخل مُضيفِه الغير الواعي .
كثيرة هي العراقيل التي تحُول دون معرِفة كاملة للأنا ، غير أنها تنتمي كلها لترويض الأنا ، مِمّا يُقلِّص دائرة المواجهة ضدها . لم نذْكُر العراقيل كلها . هل نُدْخٍل دائما و بشكل صحيح في عملية معرفة الأنا اللّحظي – التّهيُّج ، العياء ، التّأثُّر ، النّواقص المترتِّبة عن تتوال الكحول أو المخدّرات ، الإصابات – التي يمكن لها أن تُعطِّل جزءا من قدراتنا البدنية و الذهنية ؟
الصورة التي يُرَوِّجها الأنا عن الذات ، مثالية أكانت أم مُنْحَطّة ، هي دائما مُستَقِرّة لأنه يتمّ التغاضي عن التغيُّرات الظرفية التي تطرأ على القدرات البدنية والذهنية . للتّوَفُّر على ذهن جاهز و فعّال ، قادر على تحديد ما يمْكننا القيام به في اللّحظة ، لا بدّ من التّخلّص من كل عوائق الأنا . إنه مجهود شاق – صعْب على الإنسان أن يعي بنقائصه – مجهود شاق و طويل المدى في مراجعة الذات بدون هوادة ، يتيح في مرحلة أولى معرفة " العدوّ الذي بداخلنا" و فهم تأثيره و إدخال هذا المُعْطى في تحليل قدرتنا على مواجهة الصّعاب .
سنلْفُظُ الأنا ، بعدما نُصْبح مقتنعين بكونه مصدر إزعاج لنا ، وغالبا ما يحدُث هذا خلال مرورنا مِن أزمة وُجودِية . بعد تطهيرنا منه ، سنحصُل على الولوج التام لواقع العالَمَيْن الداخلي و الخارجي والتفاعل بينهما .
ليس كافيا أن يتعرّف الإنسان على نفسه و أن يكون له إدراك واضح لكي يتصدى للطوارئ . إنه من الضروري التقييم الدقيق للمصاعب التي سنواجهها . عِلاوة على ذهن مُتَّقِد وثاقِب ، نحتاج إلى الوقت لكي نلاحظ و نقارن و نقرّر . لكن ذلك هو الحلّ الوحيد لنعرف هل باستطاعتنا المواجهة و بلورة ردّ الفعل . في حالة الشّك ، سيكون من الأفضل قبول بعض التنازلات او الإنسحاب . يجب أن تستنِدّ الثقة الحقيقية على معطيات ناجعة مُدَعَّمَة و مُنَقَّحَة، وإلا سيكون لدينا عمى البصيرة . نُدْرِك الآن العلاقة في المعنى بين الثقة والإيمان لأن الإيمان أعمى بطبيعته [أي ، لا يقبل التردّد أو الشّك] .
الممارس، الذي هو في حاجة ماسة لوضوح الرُّؤَى ، سيعمل كل ما في وسعه للتمكّن من إدراك صحيح و دقيق لِما يحْدُث و التفكير في توابعه وتقدير قُدُراته للتغلّب عليه . هذا الهدف قد تَمَّ احتواؤه : العدوّ المُحَدَّد هو الأنا ، بطَلُ ردود الفعل العشوائية عندما تغمره العاطفة .
التَّصَرُّف أَم التّفكير ؟الفنان الحربي يواجه مبدئيا المُعْضِلة التالية : أمام اعتداء متفاوت الخطورة ، إذا كان التمييز و التّبَصُّر مُسْتحَبّان ، يكون في بعض الأحيان ضروريا أن يكون المرء سريع التجاوب . يصْعُب ، خلال التداريب ، التوفيق بين هاتيْن المقاربتيْن : التصرُّف أو التفكير
الهجوم فوْرا مع ترك ردود الفعل الطبيعية أو المُكتَسَبة تُعَبِّر عن نفسها مع إظهار اليقين بتمكُّن كبير ، هذا حلّ ممكٍن ظرفيا ، لكن العواقب متنوِّعة ، مِنها :
- خطأ في تقدير موقِف الخصم
- الإنغماس في العنف بسبب تحدّي بسيط
- تصعيد العنف
- الفشل أمام موازين القِوى
- اكتشاف شركاء للخصم ، بعد فوات الأوان .
- ردّ الفعل بكيفية غير متكافئة
- إدانة بالمسؤولية الجنائية، في حالة غياب شهود
- الدّفع إلى المعركة ، بدون شعورهم ، بأصدقاء أو زملاء .
كما أن أخد الوقت و التّروّي يسمح بالتجاوب بفعّالية، لكنه يتضمَّن خطرا :
- الإنهزام والعجز قبل تقرير أية استراتيجية.
فكريا ، الخيار الأول غير مقبول . اللّجوء إلى العنف من أجل القضاء على العنف هو أبْشَع مِن الغلط ، إنه آفة ، كما أنه يتضمَّن عدة عيوب. الخيار الثاني ينطوي على عيب كبير يعْتَبِرُه ممارسي الدفاع عن النفس كعيب تعجيزي.
لِنحْكُم بأنفسنا حسب ما يلي :
قبل كل شيء ، لابدّ من توضيح : نحن نتكلّم عن الإعتداءات الحقيقية و ليس على الاعتداءات التي يكون فيها الضحية المُفْترَضة هو المعتدي الحقيقي – بعض الناس هم مِن طبيعتهم عدوانيين ويتفنّنون في إحداث المواجهات – ولا على الإعتداءات التي تكون كلامية في البداية ثم يُشْعِل فتيلها المُعتدى عليه. على كل واحد أن يكون واعيا بتصرّفاته ، وهو الأمر الذي يجب أن يُجْبِر المُنْدفِعين و العُدْوانيين و المُتعجْرِفين والمريضين بجنون العَظَمة بالتساؤل حول ضرر أناهم .
غالبية الإعتداءات تتبع مؤشّرات واضحة قد تترك الوقت الكافي لتكييف التصرّف مع واقع الحالة . لماذا التسرّع مع إمكانية إيجاد حلّ سلمي في تسع حالات من عشرة ممكنة ، أو على الأقل إيجاد تجاوب ذكي و مسيطر عنه ؟
في هذه المرحلة من النزاع ، تكون خصال الذهن أهم من خصال الجسد . التقاليد تتحدّث عن التوزيع التالي من أجل الفعالية الحربية : %50 للذهن و % 50 في المائة للتقنية و القدرات البدنية . لكنه خلال المؤشرات الأولى للنزال ، الفعالية ترتكز في %100 على الذهن .
ليس نافِعا تفضيل التَّعلُّم التقني المَحْض كما هو معمول به في مناهج أسلوب الدفاع عن النفس . على عكس ذلك ،إن الرسائل الفلسفية و الأخلاقية و النفسية التي تتضمّنها كاطات الكاراطي دو تصنع ممارسين مُتَخلِّقين و واعين بمسؤوليتهم ، ويتحكّمون في اندفاعاتهم و عواطفهم . زد على ذلك أن البحث الدائم على الكمال في تنفيذ الكاطات و إعادة تركيبها (في الكيهون) و تطبيقها (في الكوميطي المُقّنَّن وفي البونكاي) يُهدِّئ التهوُّر و يُجْبِر على فهم أصل الإشكاليات المُصادَفة .
في مِثْل هذه التمارين ، العدو الوحيد الذي يقف في وجه التنفيذ المثالي هو الذات ، جسما و ذهنا . هدف الفن الحربي إذن واضح : يجب أن تتطور خصال الذهن بمعية التمكُّن التقني .
قليلة جدا هي الإعتداءات التي تكون فيها المفاجئة مُطْلَقَة و لا تترك أي مجال للتفكير . على كل حال في مثل هاته الحالة ، لا فرق من ناحية النتيجة في ممارسة رياضة حربية أو أسلوب دفاع عن النفس ، أو فن حربي .على الأكثر يمكن تمني تفادي الموت من الإصدام الأول بفضل الحظ أو بفضل حركة فعالة للحماية . في هذه الفَرَضية ، إنه من العبث الإرتماء في الحين بصفة عمياء في المواجهة ، باللجوء إلى إجابات مُقَنَّنة بينما يمكن للإعتداء أن يتَّخد مظاهر مختلفة و غير مضمونة . إنها مجازفة خطيرة . مِن الأفضل الدخول في مناورات للتفادي أو للهروب مِن أجل التملُّص من المواجهة أو من أجل تقدير موازين القِوَى للتجاوب بكيفية تمييزية و فعالة .
اللجوء إلى استعمال كلمات أو حركات مُهَدِّئة ستجعلنا نربح بعض الوقت من أجل الملاحظة و التحليل و تقرير التكتيك المناسب . شخص بالقرب من المكان ، أو شيء في متناول اليد ، أو طوبوغرافية المكان ، أو استراتيجية ذكية ، أو أي فرصة سانحة ، كلها أشياء يمكن أن تكون مساعدة ثمينة للدفاع عن النفس ، بينما التجاوب الإنتحاري يكون قد أغفلها كاملة .
في حالة فٌجائية تامّة ، لن تنفع أساليب الدفاع عن النفس في شيء لأنها ، بعد انتهاء المفاجئة ، قد تكون مُضِرّة . لماذا إذن تُحدِث كل هذا الإعجاب ؟ لأنها تطابق طلبا غامضا وأن مٌرَوِّجيها يقدّمونها على أساس أنها فعّالة ، سهلة المنال واستيعابها سريع . لذلك ، قامت الجامعة الفرنسية للكاراطي ، أمام ضياعها لعدد من المنخرطين ، بتطوير "التدريب على الكاراطي الدِّفاعي (karaté défense training) لجلب منخرطين جدد ، وهي طريقة إضافية أخرى من سلسلة من الطرائق الإضافية ، تُعْلِن جهرا توجُّهها التجاري المرتكز على مفاهيم و مصطلحات يابانية و فرنسية وإنجليزية للجلب الزبناء .
إن النوادي الخاصة بالبودو الحقيقي قد أصبحت نادرة . غالبية النوادي ، اليوم ، هي أقرب من الرياضة الحربية و الدفاع عن نفس وأبعد عن الفن الحربي ، خاصة بفرنسا حيث أن الجامعة أشاعت دائما فكرا أكثر رياضة منه من الفن الحربي ،وهذا هو ميْلها الأساسي .
هذا شيء مؤسف لأن البُودُو هو الطريق الوحيد الذي يصالح بين الأمان و السَّكينة (بالنسبة للفرد و للجماعة ) ، أوَّلا بفضل مزج التّمَكُّن الحربي و انبثاق مؤهِّلات روحية جديدة ، وثانيا بفضل احترام مبدئ أزلي : يجب التفكير قبل الفعل, ، وهاذا شرط لا غِنى عنه لعدم نشر الدمار حولنا .
البودوكا (الممارِس للبودو) المتكامل يتبع فلسفة واضحة و إنسانية تقود حياته بدون غموض . مِثْلُه مِثْلَ السامورايْ ، إنه يعيش كما يتدرّب بنفس التركيز و نفس اليقظة . إنها طريقة "كُوفُو" التي تعني تنفيذ كل شيء بكمالية تامة . الإنتباه التام والدّائم لكل الأنشطة ، من التافهة منها إلى الهامة ، يسمح بملاحظة و تسجيل الحدث التافه ظاهريا ، التّفصيل الأصغر ، و المعلومة الاشعورية . لذلك ، البودوكا الحقيقي لا يكون متفاجئا أبدا .
"التّعرُّف على الذات جيِّدا " : ضرورة معروفة منذ عهد الإغريقالتعارض بين التجاوب الإرادي و التجاوب ألاإرادي لا يخصّ فقط مفهوم الإعتداء ، بل يشمل جميع العلاقات مع الآخر. لكي نعلَمَ جيدا هذه الإشكالية علينا أن نتساءل عن أي فئة سيكولوجية ينتمي أولئك الذين هُمْ دائما واثِقين في أنفسهم، ولدَيْهم جواب على كل شيء، و الذين يتجاوبون بطريقة صاعقة ، عِلْما أن هذه التصرّفات لها علاقة وطيدة بين بعضها البعض .
التجاوب الفوْري ، بدني أو شفوي ، مِن دون تفكير مُسْبَق ، لا ياتي كمُعْجِزة ، بل لقد تَمَّ تحضيرُه مِن قبْل ، تَحَسُّبا لِحَدَث أو مسألة لها نسبة عالية من الوُقوع . لذلك يكون هذا التجاوب تقْريبي لأن ما تتطلّبه اللحظة نادرا ما يطابق التوقّعات .
كما أن التجاوب الفوري يمكن أن يكون صادرا عن التنميط الإجتماعي و غيره (conditionnement) . في هذه الحالة سيكون معروفا مُسْبقا و غير صالح لإعطاء الذكاء ما يستحق من أخد المبادرة . أما إظهار الوُثُوق بكل فَخْر و ادِّعاء المعرفة المُطْلَقة بكل شيء ، فذالك نوع من المخادعة و التمْويه قصد التغطية على الجهل و العجز.
اللّذين يلجئون حَصْرًا لهذه الأساليب ، يظنّون أو يجعلونهم يظنون أن هذه الأساليب هي الوحيدة التي ستمكِّنهم من التجاوب بفعّالية و من إبهار الجمهور أو شخص مُعاكِس أو مُعْتدي . إنهم يخشوْن عدم كفاية قدراتهم على الملاحظة و التحليل و اتخاد القرار لمواجهة الطوارئ بالسرعة الازمة . إنهم يخافون أن يُفْهَمَ أيُّ وقت مُخَصَّص للتفكير من طرفهم كنوع من عدم القدرة أو افتقار للثقة ، الأمر الذي يتيح للخصم تنفيذ هجوماته.
إن استعمال هذه التمويهات ، على قدْر من الوعي بها ، تُوفِّر لهم شعورا بالأمان . في الواقع ، أولئك الذين يحتاجون إلى هذه الرّكائز لفرض نفسهم و للظهور بنفس واثقة ، لا يثقون في أصلا بنفسهم و لكن يريدون أن يظنّ الآخرون ذلك ، و في الأخير ، يستقرّ في ذهنهم أن الناس يصدّقون الأمر. ما يظنّه اولئك مِن ثقة في النفس ليس إلا نوعا من الإيحاء الذاتي. إنهم نوع مِن سَحَرة السِّيرْك و يُعانون من قلق غير ظاهر للعيان . لذلك لا غرابة في كونهم قلِقين لأن الوثوق بالذات هو الطريق الخاطئ للسقوط في التّفاجُؤ بالخطر و السقوط في فخِّ سوء التقدير .
لو استثنَيْنا أولئك الذين يظنون أنهم يثقون بنفسهم بينما هم تُعْميهم التنميطات والإندفاعات، لن يتبقى سوى نسبة ضئيلة من ذوي الثقة بالنفس الحقيقية . هذا ناتج عن عدم الوعي بالشّرط الأساسي لبلورة الثقة بالنفس ، و هو معرفة الذات و معرفة أنَّ الأنا يتفنّن في طمس هذه المعرفة بالذات و يشوِّهها ويتصنَّعها .
غير أن معرفة الذات لا يسمح بتخطّي جميع العقبات ، بل يعطي فكرة يُعْتَدُّ بها عن قدرة التجاوب التي نمتلِك . يمكن تطوير تلك القدرة بالتَّعَلُّم و التدريب وبتطوير الخصال الذهنية . لكن إذا كان من السهل على الموْهوبين من الناس أن يكونوا على مستوى عالى من المعرفة الأكاديمية أو التقنية في ظرف بعض السنوات ، فإن السيطرة على الذهن تتطلب عملا شاقّا و طويلا لبلوغ مرتبة عالية من الوعي " ما يسمى ب "موشين" ، " هِشِرْيُو" أو " كانْشُو" . ممارسي الفنون الحربية الحقيقية يلِجون هذا المسار الوَعْر ، لكن لا يهملون ، مع ذلك ، الشِّق التقني ، وليس ذلك مِحْورهم الوحيد في العمل .
الثقة الحقيقية بالنفس لا تأتي بالصدفة ، إنها نتيجة نوع من التّزهُّد ، وهذا لا يعني استحالة تحقيقها . في الحالة المثالية للوعي " كانْشُو" يكون الذهن في تفاعل مباشر مع الواقع ، الأنا غير موجود . لقد اختفَتْ جميع العراقيل التي كان يضعها بداخل الذهن . بذلك يمكن للثقة في النفس أن ترقى إلى أعلى مستواها لأن العالم الداخلي و العالم الخارجي يَظْهران بأكبر وضوح .
إذا كان من الصّعب جدّا الوصول إلى هذه الوضعية الذهنية ، فإن هناك درجات أخرى سهلة المنال ، على الخصوص حالة "مُوشِينْ" ، التي تهدف إلى إسكات الأنا بصفة مؤقتة ، حالة في المتناول مع شحنة من المجهود الكافي . صحيح أن الذهن في هذه الحالة يحتفظ ببعض المناطق خارج السيطرة ، لكن على الأقل نحن واعون بها و نستطيع التوفر على مستوى محترم من الثقة ، أخْدًا بالإعتبار بهذا النقص .
الوثوق في النفس – وهي وضعية ذهنية قريبة من الثقة السيكولوجية المحضة في النفس و التي لا تبالي بالواقع الخارجي – هو رغم ذلك مُغْري لكونه نموذجا شبه كوني للفعالية . ثُمّ إنه سهل المنال بالنسبة للثقة الحقيقية في النفس. فهو عبارة عن تقنية كلامية و تموْضُعية يتعلّمها الإنسان بسرعة . ثُم من المفيد كذلك معرِفتها لأنها تَكْبِح قِتالية عدد كبير من الأشخاص و تُسَهِّل بالتالي تقليص مدّة التراشُقات المتشنِّجة معهم . غير أنه يجب اللجوء إلى تلك الثقة بحذر و بصفة نادرة . إن اللجوء إليها بكثافة يمكن أن يؤدي بنا إلى أن نصبح واحدا من أولئك الأشخاص المتكبرين الغير المرغوب فيهم و الذين يعيشون دوما في الخوف من انكشاف أمرهم .
إذا استوعبنا كل هذه الأمور ، فإن الحصول على ثقة حقيقية في النفس ( بفضل المعرفة العميقة للذات ، فكريا و بدنيا) مصحوبة بقدرة جيدة على الملاحظة و التحليل و اتخاد القرار ، ستظهر هذه الثقة الحقيقية كهدف أساسي ( مُضْنِي ، لأنه وجَبَ إرغام الأنا على السكوت ، ولكن تحفيزي ) .
غير أن الوصول إلى مرحة عالية من الوعي مع وجود نقص في ميدان تقني بالخصوص ، لن يؤدِّي إلى شيء ، بل فقط إلى عدم الثقة في القدرات التقنية . الزيادة في مستوى الثقة أمام الخصم يقتضي التطوّر في التمكّن من التقنيات و استراتيجيات الدفاع ، ثُمَّ القيام بالتقويم الذاتي بصرامة .
يجب التخلي عن الإستناد إلى المستوى الرسمي ، الدرجات المُسنّدة من طرف جامعة لا تعني شيئا في الواقع الملموس . لا يمكن لأي عضو من أعضاء لجنة الإمتحانات أن يدخل إلى عالم ذهنكم . غير أن الذهن هو القائد الحربي الذي سيقود جيوشكم ( القدرات البدنية و الذهنية) نحو النصر . الجنود المُسَيَّرون بكيفية غير ملائمة هُمْ عالة ولا يصلحون لشيء ، بل هم خطر. على ذهنكم أن يكون كُفْأ بهذه المسؤولية و أنتم وحدكم مّن يستطيع تقدير جاهزيته لتلك المسؤولية وبالتالي تقدير مدى استطاعتكم فِعْلِيا على السيطرة عليه .
إن مستوى فعّاليتكم يعتمد على درجة ثقتكم الحقيقية التي يسمح لكم بها الواقع الملموس ( أيْ ذكاء قائد جيوشكم و تحضيرات هذه الأخيرة و تجهيزها ، والكلّ مع الأخد بالإعتبار قوات الخصم . بالفعل الثقة بنفسكم هي التي تسمح لكم بردّ الفعل بطريقة مواتية و بهدوء و فعالية ، لكن يجب قّطْعًا أن تنبني تلك الثقة على معطيات واقعية .
فَنُّ التَّساؤل من أجل التطور ، التدريب لا يكفي . إنه يسمح بالتحكّم أحسن في ما نعرفه ، ولا يسمح بتوسيع دائرة المعارف ، عِلْما أن أية معرفة لا تعني شيئا إن لم تؤدي إلى مهارة . هم وحْدَهُم يتقدَّمون مَنْ يتساءلون ، على شرط أن يجدوا الأجوبة . من أجل ذلك ، يجب التشكيك ، التشكيك في كل شيء ، إعادة النظر في كل شيء، التّخلى عن القناعات ، الملاحظة المُتأنّية ، التحليل الدقيق ، بناء فَرَضيات ، التأكّد منها ، الإعادة من البداية بما في ذلك ما يظهر مُكْتَسَبا بصفة نهائية ، لأنه كيف التمييز بين ما نعرف ، ما نظن أننا نعرف و المعارف الخاطئة أو المُتقادِمة ؟ مِن الواضح أنه مِن الضروري وجود التحفيز و الرغبة في الإكتشاف ، في التَّعلُّم ، في تنمية مهارات جديدة شريطة التّعامل مع ذلك بكيفية صحيحة . يوجد فنّ للتساؤل . السؤال المطروح جيدا يجب أن يحتوي على بداية الجواب و لا يمكن إهمال أي مصدر للجواب.
في الميدان العِلمي ، لا يشتغل الباحثون لوحدهم . مَن يضع السؤال (مادة البحث) ربما لن يكون الذي سيقدِّم الجزء الأهم من العمل و خُلاصته . كذلك هو الشأن بالنسبة للممارسة الحربية . إذا وضعتُم أسئلة وجيهة ، فستنالون أجوِبة . ليس مُهمّا أن تجدوها لِوحْدكم أو بفضل مساعدة (أستاذكم على الخصوص) . مع ذلك ، إذا كان من الضروري التأطير المُحْكَم للمُبتدِئ لكي لا يتِيه (يجب التمكُّن من مستوى كافي للحُكْم على نجاعة سؤال أو جواب ) فإن على حاملي الحزام الأسود أن يتَّجهوا تدريجيا نحو الاستقلال الذاتي خلال تطوّرهم .
لِنأخُدْ مثال : أُوي تْزوكي :هذه التقنية تُنعَت من طرف ممارسين ذوي درجات عليا بأنها تقنية تربوية فقط ، مُجرَّدة من كل واقعية . كل من يؤمن بهذا المبدأ لن يضع أي سؤال ، وأوي تزوكي سيظل مجرّد تقنية تربوية . هل هؤلاء الخُبَراء معهم الحق ؟ بالطبع نَعَم ، لأنهم خبراء ! ولكن ، هُمْ خبراء في ماذا ؟ إن جُلَّهُم مُلَوَّث بفكر التباري الرياضي ، الميدان الذي غاب فيه الأهم وهو الفعالية .
مِن الأحسن البحث عن الفعالية الحقيقية لأوي تزوكي الأكاديمي في الإطار الحربي للإعتداء . لكن ربما لن تظهر تلك الفعالية إلا بعد الإستيعاب المُتْقَن ( الشيء الذي لا يحصل عند حاملي الحزام الأسود ، بدون شك بسبب الفكرة المُسْبَقة عن عدم فعاليته عند التعرّض لإعتداء المُقارن تَعَسُّفيا بالمواجهة في التباري الرياضي) وبعد القيام ببحث شافي .
لهذا الغرض، سيعتمد البحث على فَرَضيات موضوعية : الخصم شارِد، يتراجع إلى الوراء ، يهجم من بعيد بواسطة سلاح طويل ، تحرُّكاتكما مَعًا تدفع بك إلى جانبه أو وراء ظهره ، أوي تزوكي يسمح في نفس الوقت بتجنُّب هجوم و مباغتة معتدي ثاني ، اليد في الهيكيطي تسمح قبل كل شيء بالمَسْك ، بالتجميد ، بالتهديد ، بتغيير اتجاه هجوم مضاد ، إلى آخره . كذلك ، يجب على الفَرَضية أن تُوَلِّد أسئلة : كيف الحصول على شرود الخصم ؟ لمذا سيتراجع بالضرورة ؟ هل الدخول في هجومه يوفِّر لي امتيازا ؟ ماهو هذا الإمتياز ؟ هل مَسْكُ تهديده ( يد ممدودة أو عصى أو شيء آخر) من أجل شلِّ حركته سيسمح لي بالإنجرار نحوه و تسريع الأوي تزوكي لمباغتته ؟ وهكذا مِن الأسئلة .
أجل ، لن تبْزُغَ هذه الأفكار و تبِعاتها بالصُّدْفة . إنها تحتاج لكي تظهر إلى مستوى تقني مُعَيَّن وإرادة قوية على السيطرة والإتقان و الفعالية ، وهذه خصائص مُتكاملة لفن البودو . عندما تكون الأُسُس مُسْتوْعَبة ، يجب أن يؤدي هذا النوع مِن التنقيب إلى آفاق لإستعمال واقعي لأوي تزوكي الأكاديمي أو استعماله بتغيرات بسيطة مع وجوب تطبيقها .
بعض الإستعمالات ستكون بدون نتيجة والبعض الآخر ستكون له نتائج مُرْضية أو ستفتح آفاقا للتنقيب أكثر اتِّساعا . حبّ الإستطلاع ، الحاجة إلى الفهم ، انفتاح الفكر، حبّ التفاصيل ، البحث عن الكمال ، هي كلها أشياء يجب أن تسكُن في جينات البيدوكا الأصيل . إنه منبع النور الذي يضيء ما يبقى في الظل عند الآخرين .
هذا المنهج الإكتشافي لا يجب أن يُفْضي إلى فَهْرَسٍ من الإستعمالات المُتفاوِتة لتقنية معيّنة . لكي تكون قابلة للإستغلال ، يجب على اكتشافاتكم أم تنصّهِر مع معارفكم المُسْبَقة و أن تنْتَظِم حسب المفاهيم المعمول بها من طرفكم وذلك من أجل بناء مجموعة متناسقة ، وفهْم التصدُّعات الممكنة و إعداد أرضية التساؤلات الجديدة .
إذا كان من الضروري التفحُّص الدقيق لكل تقنية من أجل اكتشاف كل احتمالاتها ، فإن الكاطا ، أبعد من تلخيصها في تسلسل حركات ، تُكْنِز كميات هائلة من التعاليم التي يمكن أن تساعد على السيطرة على الخصوم ، إن على المستوى الداخلي أو الخارجي . غير أن الكاطا ليس هدفا في حدّ ذاته . إنها أرضية للعمل ، مُخصّصة لإكتساب مهارات تقنية ، تكتيكية ، استراتيجية ، أخلاقية ، سيكلوجية ، وهي مهارات ترتكز بدورها على خصال بدنية و روحية.
إن تكرارها بلا ملل عمل غير كافي لإكتشاف كل غناها . في الواقع يُقارَن بين الكاطا و التعبُّد "زَنْ" في الحركات ، مِثْلَ ال"زَنْ" يمكن للكاطا أن تؤدّي إلى الإلهام الذي ينير فجأة مناطق الظل التي كان يحتضنها الذهن . لكن هذا التبصُّر لا ينفي ضرورة البحث و التنقيب . التبصُّر ليس مُرادِفا للعِلْم المُنَزَّل (معرفة كل شيء) . لذلك يجب التكرار بانتظام للكاطا و للتقنيات الأساسية ، ولكن يجب كذلك مساءلتهم . إنهم يحتوون على الأجوبة ، وسيقدّموها لكم إن عرفتم تقديم الأسئلة الصحيحة . عليكم بالصّبر ! المهارة الحربية لا تُكْتسَب في لمحة بصر . لا تنتظروا كل شيء من أستاذكم . إن قدَّم إجابة على تساؤل لم يخطر على بالكم مِن قبل ، فلن تجنون منه طائلا لأنه ،لإستيعاب معرفة جديدة ، يجب أن تكون قد طلبتها.
إسألوا أنفسكم ، إسألوا الوقائع ، إسألوا ممارستكم ، إسألوا أستاذكم . إن مؤطِّرَ أبحاثكم هو أنتم .
البيدو الحقيقي للثقة الحقيقيةالثقة الحقيقية بالنفس ليست تصرُّفا أو حالة ذهنية دائمة أو اليقين المُغْتَبِط بقيمة عليا للذات . إنها تنشَأ عندما نظن أننا نملك قدرات أعلى من القدرات التي تفرضها صعوبة خاصة .إنها تنشأ عندما لا تكون معرفة الذات و الواقع مُشَوَّهة من طرف فساد الأنا . يمكن تطوير الثقة الحقيقية بشرط أن يكون الإنسان عَمَلِيا و أن يتجنَّب كل ما هو إيحاء ذاتي.
لتوسيع الثقة الخاصة ، يجب مواجهة الصِّعاب التي لم يتم بعد التغلُّب عليها ، لكن فقدان الثقة العامة يمكن أن يؤدّي إلى التخلّي عن ذلك . إن تطوير الخصال و المهارات الأساسية و العَرْضية سيرفع مستوى الثقة العامة التي سنضعها في نفسنا أمام الجوانب المجهولة لعملية جديدة أو طارئ غير منتظَر . لذلك ، فإن تدعيم الثقة العامة يساهم في توسيع محتواها من الثقة الخاصة ، لأننا لن نتهرًّب ، أو ناذرا ، أمام صعوبة جديدة وغير مألوفة. على أنه ، بالرغم من تأكيدات أشباه عُلماء النفس، لا ينطبق ذلك في الإتجاه المعاكِس : التمكُّن من نشاط جديد لا يزيد في الثقة الحقيقية العامة، ما عدى إذا كان تقابلة للنقل أو كانت مرفوقة بزيادة في الخصال الأساسية .
إن فن الحرب يهدف إلى اكتساب الثقة الواقعية لدا الممارس الذي يواجه عدة أشكال من العنف : الجسدي ، اللفظي أو الخفيّ . إن جَعَلَه واثقا بنفسه ، فمعناه لم يتحقق الهدف من الفن الحربي . الثقة الحقيقية لا تندمج مع اليقين . لكي يكْتسِبها ، على الممارس أن يطمح إلى تحقيق هدفيْن :
• مِن جهة ، إسكات أناه أو من الأفضل القضاء عليه ،الأمر الذي يُخوِّل لنا جودة الملاحظة الخالية من العيوب و معرفة الذات بدون تزييف ، لأن الأنا سِجْن لا تنتهي فيه الصُّراعات الداخلية ، وحيطانُه تمنع مِن رؤية واضحة للعالم الواقعي.
• مِن جهة أخرى ، اكتساب عِلْم المواجهة مِن أعلى مستوى ممكِن .
غير أن حَلَّ المشاكل الحياة اليومية يقتضي أولوية خصال فكرية ، ذهنية ، تفاعُلِية و أخلاقية ، أما المهارات التقنية و المُتخصِّصة فهي مطلوبة في الدرجة الثانية . لذلك ، فإن ممارسة فن حربي حقيقي ( الذي يُنَمّي في نفس الوقت جميع خصال الذهن و جميع القُدرات بدنية و تقنية حربية كاملة) يُحَسِّن بالملموس الثقة العامة في النفس ، بما أن الخصال العَرْضية العديدة و الأساسية ، البدنية و النفسية ، الضرورية لممارسة حربية ناجعة ، ستكون نافعة في عدة أنشطة و حالات معينة .
لا يجب اتخاذ الطريق الخطأ . الظُّهور بوثوق في النفس ، مع نفخ العضلات أو بإظهار الغطرسة هي وَضْع يسهُل اتخاده بسرعة ، خصوصا أنه ليس من الضروري أن يكون الإنسان كفؤا ، وهذا ما يجعل ذلك الوضع جدّابا ، لكن يحبس صاحبه في الضَّنَكية ( وَضْع في دون المستوى) .
إن تنمية الثقة الواقعية في النفس طريق طويل و ممتلئ بالأفخاخ ، البعض منها مُنَفِّرَة . وفي الأخير ، حصيلة الخيارَيْن ليست متطابقة ، بل أبعد من ذلك "
- على المستوى الشخصي : بما أن الأنا قد تُرِكَ جانبا ، فإن المعرفة الكاملة للذات و الإدراك الواضح للواقع يسمحان بسُمُوٍّ الفن الحربي إلى قِمَّتِه . وليس هذا فحسب ، بل أن هذه القدرات الروحية الجديدة ( بِفتْحِها لأبواب اليقظة و الحِكمة و السَّكينة ) تسْمو بالممارس الذي استطاع التغَلُّب على عقبات المسار و تُنير جميع ميادين حياته .
- على المستوى الجماعي، كلما تَقَدَّمَ إنسان ، فالحضارة كلها تتقدم. بالفعل ، إن الأشخاص الذين هُمْ سُجَناء أناهم ، الغارقين في عثراته ، يُغَدّونَ بدون شعور عاهات المجتمع المبني على هيمنة البعض عن البعض الآخر ، الذي يكون فيه الجدال الفارغهو نتاج العنف و الخِداع و الإزدراء . الثقة الحقيقية التي يمكنهم وضعها في أنفسهم أو في غيرهم هي جدّ محدودة .
إن اللذين استطاعوا قطع أوصال أناهم هُمْ أُناس مُتَفتِّحين و وثقين في قدراتهم بما أنهم يعرفون أنفسهم جيدا . إنهم مُهَندسي عالم من التعاون ، هادئ ومُسالِم ، الذي يمكن أن توجد فيه ثقة مُتَبادَلة بين أفراد مُتَخَلِّصين مِن تقلُّبات الأنا .
ليست جميع الطُّرُق تؤدّي إلى الجنَّة ، إن شيئا مِن التمييز ضروري و نافِع عند اختيار الطريق .
تَرْجَمْتُه بتصرُّف عن موقع :http://www.goshinbudokai.fr/confiance.html